• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سيادة القانون وأثرها في التحوّل الديمقراطي

د. علاء إبراهيم الحسيني

سيادة القانون وأثرها في التحوّل الديمقراطي

 شهد التحوّل الديمقراطي في العراق بعد العام 2003 العديد من التطوّرات الإيجابية والسلبية على حدٍّ سواء، فالنظام الديمقراطي يعني أنّ الشعب هو المصدر أو المنبع الوحيد والأصيل للسلطة بكلّ أبعادها، وإنّه المصدر الوحيد القادر على إسباغ الشرعية على الجهة أو الجهات التي تمارس السلطة باسمه ونيابة عنه، ولا يكون أو يتحقّق ما تقدّم إلّا باتباع إرادته الحرّة في اختيار مَن يتولى ممارسة السلطة العامّة بشقّها التشريعي أو التنفيذي وحتى القضائي، والمقدّمة الطبيعية للوصول إلى هذه الغاية هي تحقّق سيادة القانون.

 السؤال الذي يطرح أي قانون نطالب بسيادته؟، فليس كلّ قانون حقيق بالسيادة فدائماً القابض على السلطة يكون أمام طريق ذو نهايتين أحداهما مصلحة الشعب والآخر مصالحه أو مصالح حزبه أو فئته وما شاكل، واحتمالية الانحراف في أداء الأمانة وارد جدّاً، لهذا نقول القاعدة القانونية هي التي تستحق السيادة أياً كان مصدرها الدستور أو التشريع الصادر عن البرلمان أو التشريعات الفرعية التي تصدرها الحكومة والأقاليم والمحافظات وغيرها، وشرطنا الوحيد للقول بسيادتها أن تستجيب هذه القاعدة القانونية لتمثيل حقيقي ومتكافئ لمصالح الشعب، وإلّا فلا يمكن القول بسيادتها أو سموها أو وجوب احترامها وتطبيقها، كما وإنّ السيادة القانونية لا تقف عند الإصدار إنّما تنسحب للتطبيق ومرحلة التنفيذ الواجب أن يكون وفق أُسس ومبادئ موضوعية بحتة مستقاة من المساواة والعدالة بين الناس بلا أي شكل من أشكال التمييز ولأي سبب كان.

 فإن تمكن المشرع في مرحلة سنّ القاعدة القانونية والسلطة التنفيذية في مرحلة التنفيذ من أن يلتزما بما تقدّم فهذا من شأنه أن يحقّق الأمن التشريعي أوّلاً، والسلم المجتمعي ثانياً، ويكفل الاستجابة الطوعية للقانون، واستقرار الأوضاع في الدولة، كما وأنّه سيكون سبباً مباشراً في إطالة عمر القاعدة القانونية فلا نحتاج إلى إعادة النظر بها بالتعديل أو التغيير، فسيادة القانون تعني أنّ للقانون العلوية على جميع السلطات العامّة (كهيئات وحكّام) وعلى الأفراد جميعاً بوصفه تعبير عن إرادة الشعب.

 وبما أنّ القانون هو الأداة الوحيدة لحكم الشعب وتنظيم شؤون الدولة وترسيخ أركانها، فهو سلاح ذو حدين قد يستخدم لقمع الإرادة الشعبية الحرّة ومصادرة الحقوق والحرّيات العامّة والخاصّة خدمة لشخص الحاكم أو يكون أداة ترسخ الديمقراطية وحكم الشعب وترسي المساواة وتكفل الحقوق والحرّيات وتمنع التعدي عليها، وما يعنينا هو المعني الثاني حين يكون القانون المعبّر عن إرادة الأفراد والمنظّم للحقوق والحرّيات والضامن لحياد الهيئات العامّة.

 والمعنى الحقيقي لسيادة القانون يكمن في العديد من المبادئ الأساسية التي تعطي لهذه الحقيقة القانونية معناها الواقعي من الناحية الأكاديمية والعملية بل وحتى الفنّية، ونستطيع أن نحدّد ذلك بالآتي:

1- الانتصار للحقوق الأساسية وضمان الحرّيات العامّة والخاصّة، وتكريس إمكانيات الدولة عامّة لتحقيق ما تقدّم.

2- التزام الهيئات العامّة (السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية) والمواطنين جميعاً بالقانون واحترام مقاصد النص التشريعي، أيّاً كانت مرتبة القاعدة القانونية (دستورية أو تشريعية أو أنظمة وتعليمات).

3- إيجاد طُرُق عملية لصياغة النصوص القانونية بشكل احترافي بعيداً عن أُسس الصياغة المستوردة أو القوالب الجاهزة التي لا تتلاءم مع احتياجات المجتمع الحقيقية، وضمان الابتعاد بالقواعد القانونية عن أوجه النقص والقصور أو الغموض والإبهام.

4- حتمية التأسيس لجهة قضائية مستقلة وذات مصداقية تختص بمراقبة التشريعات وإلغاء ما خالف منها إرادة الشعب أو تعارض مع مصالحه، كما ينبغي أن يعهد إليها بتفسير النصوص وبيان مقاصدها العامّة والخاصّة.

5- إيجاد المؤسّسات الكفيلة بإنفاذ القانون بشكل عملي وفاعل على الجميع بدون استثناء بما من شأنه أن يحقّق المصالح العامّة والخاصّة ويوازن بينها.

والقول بسيادة القانون بشكل عامّ وفي العراق بوجه خاصّ يتطلّب تحديد الضمانات التي تتكفل بالوصول لهذه الغاية بشكل أمن وفاعل، ويمكننا أن نبيّنها بالآتي:

1- أن تكون النصوص القانونية كافّة مصاغة بعبارات سهلة غير مستعصية على الفهم من قبل الكافّة، ولا تقبل التفسير الواسع، أو أوجه متعدّدة ومتناقضة، فتكون باباً لفساد السلطات العامّة وانحرافها بحجة التطبيق اليومي للقوانين والقواعد القانونية.

2- عدم رجعية القواعد القانونية على الماضي، وتعد قاعدة حظر الرجعية مبدأ مهم لا غنى عنه للوصول إلى دولة القانون وسيادة حكم القانون، لاسيّما في القوانين الجنائية والمالية.

3- شخصية الجزاءات أيّاً كانت سواءً الجنائية منها أو الإدارية أو المدنية، واتباع الإجراءات الصحيحة التي تتوافق مع القانون في توقيعها.

4- اتباع الإجراءات القانونية الأصولية عند القيام بالمهام والواجبات الملقاة على كاهل السلطات العامّة، لتتصف أعمالها بالمشروعية، ولتصادف بذلك أساساً من القانون.

5- وحدة القضاء واختصاصه بمحاكمة كلّ المتهمين دون تمييز لأي سبب كان فالمحاكم الخاصّة أو الاستثنائية بالعادة تكون سوطاً بيد الحاكم، وقد تتسبّب في الانحراف انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.

6- التأكيد على أهميّة الوعي الشعبي لتحقيق سيادة القانون بالامتثال لأحكام القانون ومراقبة أداء السلطات العامّة، ومنع كلّ أشكال الانحراف أو التعسف باستخدام السلطة بوسائل الضغط الشعبي السلمية.

7- تأسيس مجتمع مدني حقيقي قائم على أساسين أوّلهما المواطنة وثانيهما المؤسّسات المنظمة أو المحركة للإرادة الشعبية والمؤتمنة على مصالح الشعب والمتمثلة بمنظمات المجتمع المدني التي تلعب دوراً وسيطاً مهمّاً في الرقابة على أداء السلطات العامّة، وتشجيع الأفراد على القيام بالدور الإيجابي الفاعل والمؤثر في الشأن العام.

8- التطبيق العادل للقانون بواسطة السلطات العامّة كافّة وبالخصوص السلطتين التنفيذية والقضائية للوصول إلى مرحلة الاحتكام التام للقانون والذي يشّعر الجميع بموضوعية إجراءات التنفيذ والتطبيق السليم.

9- انتقاء الموظفين وممثلي الشعب في المجالس التمثيلية بشكل موضوعي يضمن وصول اكفأ العناصر وأشدّها نزاهة وحرصاً على الحقوق والحرّيات العامّة والخاصّة.

10- الحياد التام للسلطات العامّة والموظفين وأعضاء المجالس المنتخبة عند ممارسة المهام والاختصاصات الموكلة إليهم، والتعامل مع المواطنين بعيداً عن كلّ الهُويّات الفرعية التي يحملونها.

11- تغليب المصلحة العامّة للشعب والوطن على كلّ المصالح الأُخرى.

12- الاحتكام للوسائل الديمقراطية في الوصول إلى المجالس التمثيلية والتداول السلمي للسلطة، والتركيز على إصلاح النظام السياسي ومكوناته الأساسية لاسيّما النظام الحزبي.

ولسيادة حكم القانون نتائج مهمّة عند تحقّقه نحصي بعضها في الآتي:

1- تعزيز الثقة بين المواطن والسلطات العامّة فالأفراد يكونوا على ثقة من أنّ الموظفين والهيئات العامّة على قدر من الثقة والاعتبار في النهوض بوظائفها الدستورية والقانونية.

2- حماية المصلحة العامّة وبالخصوص المال العامّ، وبالنتيجة سيكون الوطن بمأمن من الوقوع في مشاكل وفوضى عارمة تأتي على الأُسس العامّة للدولة، ما يمنع العنف في المجتمع والمدرسة والأُسرة.

3- وسيادة القانون بالنتيجة تفضي إلى الدولة القانونية وتبعدنا عن شبح الدولة البوليسية ذات الأنظمة الشمولية وغير الديمقراطية التي تضع الدستور والقواعد القانونية جانباً وتحتكم لأهواء الحاكم الدكتاتور أو لبعض الأفراد من العسكريين أو تابعين لحزب معين، وبالعادة في ظل حكم دكتاتوري تنمو النزعات القبلية أو الاثنية ويشعر البعض أنّهم أفضل من البعض الأخر وهذا ما شهدناه في الأنظمة النازية وما سواها.

4- من الثابت أنّ الأمن القانوني للمواطنين يتحقّق بسيادة القانون، إذ يشعر الجميع أنّ القانون هو الحاكم وأنّ تغيير القواعد القانونية يكون وفق الحاجة الحقيقية، وباتباع وسائل وأساليب تكشف الصياغات الأكثر اتفاقاً مع الواقع واستجابة للحاجات المستجدة.

5- الترابط بين سيادة القانون والديمقراطية، فلا يصحّ الكلام عن الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة دون الاستناد إلى سيادة القانون أيّاً كان مصدره أو مرتبته على الجميع حكاماً ومحكومين وهذا من شأنه أن يحقّق التكافؤ بين الأفراد والمؤسّسات كالأحزاب في الاشتراك والفوز بالمقاعد البرلمانية أو المناصب الحكومية.

6- سيادة القانون على الحاكم من شأنها أن تكون الدرع الواقي للحقوق والحرّيات العامّة والخاصّة لاسيّما السياسية منها.

7- تحقّق الحياة الحرّة الكريمة للمواطنين وترسيخ العلاقة القانونية القائمة على التعاون بين المواطن والسلطات العامّة في الدولة بغية أداء الواجبات المناطة بكلّ منهما وفق ما رسم الدستور والقانون.

ارسال التعليق

Top